فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (13):

{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
وسبق أنْ وعدها الله: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] وها هو أوانُ تحقيق الوعد الأول، وهو بُشْرى بتحقُّق الوعد الثاني {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] لكن هذا في مستقبل الأيام، وسوف يتحقق أيضاً.
وقوله سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ} [القصص: 13] يدل على أن الاسباب في يد المسبب سبحانه، فنحن الذين رددناه، لا أخته ولا فرعون؛ لأننا نُسيِّر الامور على وَفْق مرادنا، ونُمهّد لها الطريق حتى أننا نحول بين المرء وقلبه، ولينفذ قضاؤنا فيه.
وقوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] يعني: لا يعلمون أن وَعْد الله حق.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}

.تفسير الآية رقم (14):

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}
الأشُدّ: يعني القوة واكتمال النمو، وقد حدّدوا لذلك سِنَّ الثامنة عشرة إلى العشرين {واستوى} [القصص: 14] الاستواء هو بلوغُ العقلِ مرحلةَ النضج الفكري، فلما اكتملت لموسى عليه السلام قوة الجسم ونُضْج العقل {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [القصص: 14].
ثم يقصُّ الحق سبحانه، فيقول: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ}

.تفسير الآية رقم (15):

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}
أراد موسى عليه السلام أن يدخل القرية على حين غفلة من أهلها، لأن بني إسرائيل كانوا مُضطهدين، وكان القبط في بعض المدن ذاتَ الكثافة العددية منهم يُحرِّمون على بني إسرائيل دخول قراهم؛ لذلك اختار موسى وقت غفلة الناس، لكنه لم يدخل في الليل لأنه لا يهتدي إلى الطريق، فقيل: دخلها وقت القيلولة والناس في بيوتهم.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} [القصص: 15] يعني: من بني إسرائيل {وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] يعني: الأقباط {فاستغاثه} [القصص: 15] أي: طلب منه العَوْن والنجدة {فَوَكَزَهُ موسى} [القصص: 15] يعني: ضربه بجُمْع يديه، فجاءت نهاية القبطي وأجله مع هذه الضربة، لا أنه مات بها، وكثيراً ما تحدثُ هذه المسألة في شجار مثلاً بين شخصين، فيضرب أحدهما الآخر فيقع ميتاً، وبتشريح جثته يتبين أنه مات بسبب آخر.
ومثال ذلك: حين تكلِّف شخصاً بقضاء حاجة لك، أو تُوسِّطه في أمر ما، فيدخل عند المسئولين ويسعى إلى أن يقضي لك حاجتك فتقول: (فلان قضالي كذا وكذا) وهو في الحقيقة ما قضى في الأرض إلا بعد أن قضى الله في السماء.
لكن الله تعالى أراد أنْ يُكرم الواسطة، فجعل قضاءها موافقاً لقضائه سبحانه، فنقول في هذه الحالة: قضي الله المصلحة معه لا به.
كان القبط كما قُلْنا يكرهون بني إسرائيل ويُعذِّبونهم، فلما قتلَ موسى القبطي زاد غضبهم وكراهيتهم لبني إسرائيل؛ لذلك أحسَّ موسى أن هذا العمل من الشيطان، ليزيد هذه العداوة {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15].

.تفسير الآية رقم (16):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)}
يُعلمنا موسى عليه السلام أن الإنسان ساعة يقترف الذنب، ويعتقد أنه أذنب لا يكابر، إنما ينبغي عليه أنْ يعترف بذنبه وظلمه لنفسه، ثم يبادر بالتوبة والاستغفار {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} [القصص: 16] يعني: يا ربّ حكْمك هو الحقّ، وأنا الظالم المعترف بظلمه.
ومن هنا كان الفَرْق بين معصية آدم عليه السلام ومعصية إبليس: آدم عصى واعترف بذنبه وأقرَّ به، فقال {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] فقبل الله منه وغفر له. أما إبليس فعلَّل عدم سجوده: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] فردَّ الحكم على الله.
لذلك نقول لمن يُفتي بغير ما شرع الله فيُحلِّل الحرام لسبب ما، نقول له: احذر أنْ ترَّد على الله حكمه؛ لأنك إنْ فعلتَ فأنت كإبليس حين ردَّ على الله حُكمه، لكن أفْتِ بالحكم الصحيح، ثم تعلَّل بأن الظروف لا تساعد على تطبيقه، فعلى الأقل تحتفظ بإيمانك، والمعصية تمحوها التوبة والاستغفار، أما الكفر فلا حيلةَ معه.
فلما استغفر موسى ربه غفر له {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [القصص: 16] يُعرف الذنب، ثم يغفره رحمة بنا؛ لأن الإنسان حين تصيبه غفلة فيقع في المعصية إذا لم يجد باباً للتوبة وللرجوع يئس وفقد الأمل، وتمادى في معصيته ونسميه(فاقد) عنده سُعار للجريمة، ولا مانع لديه من ارتكاب كل الذنوب.
إذن: فمشروعية التوبة الاستغفار تعطي المؤمن أملاً في أنه لن يُطرَدَ من رحمة الله، لأن رحمة الله واسعة تسَع كل ذنوبه مهما كثُرتْ.
لذلك يقول تعالى في مشروعية التوبة {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118] والمعنى: شرع لهم التوبة، وحثَّهم عليها ليتوبوا بالفعل فيقبل منهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ}

.تفسير الآية رقم (17):

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}
قوله: {بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 17] يعني: بالمغفرة وعذرتني وتُبْت عليَّ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] أي: عهد الله عليَّ ألاَّ أكون مُعيناً للمجرمين.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة}

.تفسير الآية رقم (18):

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)}
أي: بعد أن قتل موسى القبطيَّ صار خائفاً منهم {يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18].
ينظر في وجوه الناس، يرقب انفعالاتهم نحوه، فربما جاءوا ليأخذوه، كما يقولون: يكاد المريب أنْ يقول: خذوني، فلو جلس قوم في مكان، ثم فاجأهم رجال الشرطة تراهم مطمئنين لا يخافون من شيء، أما المجرم فيفر هارباً.
ومن ذلك ما يقوله أهل الريف:(اللي على راسه بطحة يحسس عليها).
وهو على هذه الحال من الخوف والترقُّب إذ بالإسرائيلي الذي استغاث به بالأمس {يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18] استصرخ يعني: صرخ، ونادى على مَنْ يُخلّصه، وهو انفعال للاستنجاد للخلاص من مأزق، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
وسبق أن تكلَّمنا في همزة الإزالة نقول: صرخ فلان يعني استنجد بأحد فأصرخه يعني: أزال سبب صراخه، فمعنى الآية: أنا لا أزيل صراخكم، ولا أنتم تزيلون صراخي.
عندها قال موسى عليه السلام لصاحبه الذي أوقعه في هذه الورطة بالأمس {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 18] تريد أنْ تُغويَني بأنْ أفعل كما فعلت بالأمس، وما كان موسى عليه السلام ليقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه، فلا يُلْدَغ المؤمن من جُحْر مرتين.

.تفسير الآية رقم (19):

{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}
قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} [القصص: 19] يعني: أن موسى حَنَّ مرة أخرى للذي من شيعته وهو الإسرائيلي وناصره، ولكن الرجل القبطي هذه المرة واجهه {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} [القصص: 19] فهو يعرف ما حدث من موسى، وما داموا قد عرفوا أنه القاتل، فلابد لهم أنْ يطلبوه، وأن ينتقموا منه.
وقوله تعالى: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} [القصص: 19] إنْ هنا نافية يعني: ما تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض، فقد قتلتَ نفساً بالأمس، وتريد أنْ تقتلني اليوم.
إذن: عرفوا أن موسى هو القاتل، وهناك ولابد مَنْ يسعى للإمساك به، وفي هذا الموقف لحقه الرجل المؤمن: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة}

.تفسير الآية رقم (20):

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}
هو الرجل المؤمن من آل فرعون، جاء لينصح موسى بالخروج والهرب قبل أنْ يُمسِكوا به فيقتلوه.

.تفسير الآية رقم (21):

{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)}
لأنهم يضطهدوننا ويعذبوننا من غير ما جريرة، فما بالك بعد أنْ وجدوا فرصة وذريعة ليزدادوا ظلماً لنا؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ}

.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}
معنى {تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22] يعني: ناحيتها، وأراد أنْ يهرب من مصر كلها، ولم يكُنْ يقصد مدين بالذات، إنما سار في طريق صادف أنْ يؤدي إلى مدين بلد شعيب عليه السلام.
ولو كانت مَدْينُ مقصودة له لما قال بعد توجهه: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} [القصص: 22] فموسى حينما خرج من مصر خائفاً يريد الهرب لم يفكر في وجهة معينة، فالذي يُهمه أنْ يخرج من هذه البلدة، وينجو بنفسه.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}
عرض القرآن الكريم هذه القصة في إيجاز بليغ، ومع إيجازها فقد أوضحتْ مهمة المرأة في مجتمعها، ودور الرجل بالنسبة للمرأة، والضرورة التي تُلجئ المرأة للخروج للعمل.
معنى {وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] يعني: جاء عند الماء، ولا يقتضي الورود أن يكون شَرِب منه. والورود بهذا المعنى حلَّ لنا الإشكال في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] فليس المعنى دخول النار، ومباشرة حَرِّها، إنما ذاهبون إليها، ونراها جميعنا إذن: وردْنا العَيْن. يعني: جئنا عندها ورأيناها، لكن الشرب منها، شيء آخر.
{وَجَدَ عَلَيْهِ} [القصص: 23] أي: على الماء {أُمَّةً} [القصص: 23] جماعة {يَسْقُونَ} [القصص: 23] أي: مواشيهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} [القصص: 23] يعني: بعيداً عن الماء {امرأتين تَذُودَانِ} [القصص: 23] أي: تكفّان الغنم وتمنعانها من الشُّرْب لكثرة الزحام على الماء {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23] أي: ما شأنكما؟
وفي الاستفهام هنا معنى التعجُّب يعني: لماذا تمنعان الغنم أنْ تشربَ، وما أتيتُما إلا للسُّقْيا؟
{قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
وقولهما {حتى يُصْدِرَ الرعآء} [القصص: 23] يعني: ينصرفوا عن الماء، فصدر مقابل ورد، فالآتي للماء: وارد، والمنصرف عنه: صادر: نقول: صدر يَصْدُر أي: بذاته، وأصدر يُصْدر أي: غيره.
فالمعنى: لا نَسْقي حتى يسقي الناس وينصرفوا. و{الرعآء} [القصص: 23] جمع رَاعٍ. ثم يذكران العلَّة في خروجهما لِسقْي الغنم ومباشرة عمل الرجال {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
ثم يقول الحق سبحانه: {فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى}

.تفسير الآية رقم (24):

{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}
معنا إذن في هذه القصة أحكام ثلاثة {لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء} [القصص: 23] أعطَتْ حكماً و{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] أعطتْ حُكْماً و{فسقى لَهُمَا} [القصص: 24] أعطت حكماً ثالثاً.
وهذه الأحكام الثلاثة تُنظم للمجتمع المسلم مسألة عمل المرأة، وما يجب علينا حينما تُضطر المرأة للعمل، فمن الحكم الأول نعلم أن سَقْي الأنعام من عمل الرجال، ومن الحكم الثاني نعلم أن المرأة لا تخرج للعمل إلا للضرورة، ولا تؤدي مهمة الرجال إلا إذا عجز الرجل عن أداء هذه المهمة {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
أما الحكم الثالث فيعلم المجتمع المسلم أو حتى الإنساني إذا رأى المراة قد خرجت للعمل فلابد أنه ليس لها رجل يقوم بهذه المهمة، فعليه أن يساعدها وأنْ يُيسِّر لها مهمتها.
وأذكر أنني حينما سافرت إلى السعودية سنة 1950 ركبتُ مع أحد الزملاء سيارته، وفي الطريق رأيته نزل من سيارته، وذهب إلى أحد المنازل، وكان أمامه طاولة من الخشب مُغطَّاة بقطعة من القماش، فأخذها ووضعها في السيارة، ثم سِرْنا فسألتُه عما يفعل، فقال: من عاداتنا إذا رأيتُ مثل هذه الطاولة على باب البيت، فهي تعني أن صاحب البيت غير موجود، وأن ربة البيت قد أعدَّتْ العجين، وتريد مَنْ يخبزه فإذا مَرَّ أحدنا أخذه فخبزه، ثم أعاد الطاولة إلى مكانها.
وفي قوله تعالى: {لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء} [القصص: 23] إشارة إلى أن المرأة إذا اضطرتْ للخروج للعمل، وتوفرْت لها هذه الضرورة عليها أنْ تأخذَ الضرورة بقدرها، فلا تختلط بالرجال، وأنْ تعزل نفسها عن مزاحمتهم والاحتكاك بهم، وليس معنى أن الضرورة أخرجتْ المرأة لتقوم بعمل الرجال أنها أصبحتْ مثلهم، فتبيح لنفسها الاختلاط بهم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فكان موسى عليه السلام طوال رحلته إلى مَدْين مسافراً بلا زاد حتى أجهده الجوع، وأصابه الهزال حتى صار جِلْداً على عظم، وأكل من بقل الأرض، وبعد أن سقى للمرأتين تولَّى إلى ظلِّ شجرة ليستريح، وعندها لَهَج بهذا الدعاء {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد من الضعيف أنْ يتجه إلى المعونة، وحين يتجه إليها فلن يفعل هو، إنما سيفعل الله له؛ لذلك نلحظ أن موسى في ندائه قال {رَبِّ} [القصص: 24] واختار صفة الربوبية، ولم يقُلْ يا الله؛ لأن الألوهية تقتضي معبوداً، له أوامر ونواهٍ، أمّا الرب فهو المتولِّي للتربية والرعاية، فقال: يا رب أنا عبدك، وقد جئتَ بي إلى هذا الكون، وأنا جائع أريد أن آكل.
ومعنى {أَنزَلْتَ} [القصص: 24] أن الخير منك في الحقيقة، وإنْ جاءني على يد عبد مثلي؛ ذلك لأنك حين تُسلسل أيَّ خير في الدنيا لابد أن ينتهي إلى الله المنعِم الأول، وضربنا لذلك مثلاً برغيف العيش الذي تأكله، بدايته نبتة لولا عناية الله ما نبتتْ.
لذلك يقولون في(الحمد لله) صيغة العموم في العموم، حتى إنْ حمدتَ إنساناً على جميل أسداه إليك، فأنت في الحقيقة تحمد الله حيث ينتهي إليه كُلُّ جميل.
إذن: فحمْد الناس من باطن حمد الله، والحمد بكل صوره وبكل توجهاته، حتى ولو كانت الأسباب عائدة على الله تعالى، حتى يقول بعضهم: لا تحمد الله حتى تحمد الناس.
ذلك لأن أَزِمّة الأمور بيده تعالى، وإنْ جعل الأسباب في أيدينا، وهو سبحانه القادر وحده على تعطيل الأسباب، وأذكر أن بعض الدول(باكستان) أعلنت عن وفرة عندهم في محصول القمح، وأنها ستكفيهم وتفيض عنهم للتصدير، وقبل أنْ ينضج المحصول أصابته جائحة فأهلكته، فاختلفت كل حساباتهم، حتى استوردوا القمح في هذا العام.
هذا معنى {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فالخير منك يا رب، وإنْ سُقْته إليَّ على يد عبد من عبيدك، وفقري لا يكون إلا إليك، وسؤالي لا يكون إلا لك.
ولم يكَدْ موسى عليه السلام ينتهي من مناجاته لربه حتى جاءه الفرج: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي}